من البدع الحسنة الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا العمل لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا فيما يليه، إنما أحدث في أوائل القرن السابع للهجرة، وأول من أحدثه ملك إربل وكان عالمًا تقيًّا شجاعًا يقال له المظفر. جمع لهذا كثيرًا من العلماء فيهم من أهل الحديث والصوفية الصادقين. فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها، منهم الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، وتلميذه الحافظ السخاوي، وكذلك الحافظ السيوطي وغيرهم. وذكر الحافظ السخاوي في فتاويه أن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار في المدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. وللحافظ السيوطي (1) رسالة سماها "حسن المقصد في عمل المولد"، قال: "فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أو لا؟ والجواب عندي: أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسر من القرءان، ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف. وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدّين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له ءاثار حسنة، وهو الذي عمَّر الجامع المظفري بسفح قاسيون".ا.هـ. قال ابن كثير (2) في تاريخه: "كان يعمل المولد الشريف - يعني الملك المظفر - في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان شهمًا شجاعًا بطلاً عاقلاً عالمًا عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه. قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب ابن دحية مجلدًا في المولد النبوي سماه "التنوير في مولد البشير النذير" فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في المُلك إلى أن مات وهو محاصر للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة محمود السيرة والسريرة".ا.هـ.
ويذكر سبط ابن الجوزي في مرءاة الزمان أنه كان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية (3). وقال ابن خلكان (4) في ترجمة الحافظ ابن دحية: "كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب فدخل الشام والعراق، واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب "التنوير في مولد البشير النذير"، وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار".ا.هـ.
قال الحافظ السيوطي: "وقد استخرج له - أي المولد - إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلاً من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانيًا..."ا.هـ. فتبين من هذا أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة فلا وجه لإنكاره، بل هو جدير بأن يسمى سنة حسنة لأنه من جملة ما شمله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء" وإن كان الحديث واردًا في سبب معين وهو أن جماعة أدقع بهم الفقر جاءوا إلى رسول الله وهم يلبسون النِّمار مجتبيها أي خارقي وسطها، فأمر الرسول بالصدقة فاجتمع لهم شىء كثير فسرّ رسول الله لذلك فقال: "من سنَّ في الإسلام ..." الحديث.
1. وذلك لأن العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، ومن أنكر ذلك فهو مكابر.