الهجرة المباركة أمر ونصر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
اجتمع المشركون في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها ليتشاوروا فيما يصنعون في أمر رسول الله حين خافوه. غدوا في اليوم الذي تواعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس لعنه الله في هيئة شيخ نجدي كبير عليه كساء غليظ مربع وقيل كساء من صوف فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفاً على بابها قالوا: من الشيخ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً قالوا: أجل فأدخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً قال فتشاوروا ثمّ قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثمّ تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهير والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.
قال إبليس: لا والله ما هذا لكم برأي والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعونه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا إلى غيره ثمّ قال قائل منهم نخرجه من بين أظهرنا فننفيه.
قال إبليس لعنه الله (الشيخ النجدي) والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن هديته وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثمّ يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثمّ يفعل بكم ما أراد فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً نسيباً وسيطاً ثمّ تعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثمّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا من بالعقل فعقلناه لهم ، يقول الشيخ النجدي: القول ما قال هذا الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فأتى جبريل رسول الله فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب" نم على فراشي وتسجى- أي تغطى- ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم عليه فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم"وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام.
اجتمع المشركون وفيهم أبو جهل بن هشام فقال وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثمّ بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثمّ بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم ناراً تحرقون فيها فخرج عليهم رسول الله فأخذ حفنة من تراب في يده ثمّ قال" نعم أنا أقول ذلك وأنت أحدهم". وأخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله تعالى}يس والقرءان الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم {إلى قوله} فأغشيناهم فهم لا يبصرون {حتى فرغ رسول الله من تلاوة الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ثمّ انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم ءات ممن لم يكن معهم فقال: وما تنتظرون ها هنا قالوا: محمداً قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ثمّ ما ترك منكم رجلاً إلاّ وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته أفما ترونها بكم ، فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراباً ، ثمّ جعلوا يطلعون فيرون علياً على الفراش مستجياً ببرد رسول الله فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً عليه بردة فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي على الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان قد حدثنا، فكان مما أنزل الله من القرءان في ذلك} وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين{ سورة الأنفال/ءاية 30 ومعلوم أن المكر من العباد هو الخبث والخداع لإيصال الضرر إلى الغير أما مكر الله فهو مجازاة الماكرين على مكرهم إذ إن الله سبحانه منزه عن صفات المخلوقين لا يشبهه شئ ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن أبو بكر في الخروج من مكة حين اشتد عليه فقال له رسول الله : أقم فقال: يا رسول الله أتطمع أن يؤذن لك فقال: إني لأرجو ذلك فانتظره أبو بكر ثمّ أتى رسول الله إلى أبي بكر ذات يوم ظهراً فناداه فقال: اخرج من عندك فقال: يا رسول الله إنما هنا ابنتاي قال: شعرت أنه قد أذن لي في الخروج فقال: يا رسول الله الصحبة فقال: الصحبة قال: يا رسول الله عندي ناقتان قد أعددتهما للخروج فأعطى النبي إحداهما فركبا فانطلقا حتى أتيا الغار وهو بثور فتواريا فيه وكان عامر بن فهيرة غلاماً لعبدة بن الطفيل وهو أخو عائشة لأمها وكانت لأبي بكر منحة (أي غنم) فكان يروح بها ويغدو عليها ويصبح فيدلج إليهم ثمّ يسرح فلا يفطن له أحد من الرعاء فلما خرجا خرج معهما يعقبانه حتى قدم المدينة وكان من شأن النبي وصاحبه أبي بكر الصديق أن دخلا غار ثور وفي ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت حتى سترت النبي وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي على أربعين ذراعاً تعجل بعضهم ينظر في الغار فلم ير إلاَّ حمامتين وحشيتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا له: مالك فقال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد فسمع النبي ما قال فعرف رسول الله أن الله عز وجل قد درأ عنه.
وسمع المسلمون بالمدينة خروج رسول الله من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرّة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على بناء مرتفع من أبنيتهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا الذي تنتظرون فثار المسلمون فتلقوا رسول الله بظهر الحرّة.
ولبث رسول الله في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله ثمّ ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة وكان مربداً للتمر (الموضع الذي يجعل فيه التمر( لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة فقال رسول الله حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله تعالى المنزل ثمّ دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثمّ بناه مسجداً فطفق رسول الله ينقل اللبِن مع أصحابه المهاجرين والأنصار.
اللهم صل وسلم وبارك على معلم الناس الخير سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله صلاة دائمة إلى يوم الدين.