لم تعرف الدنيا ولا البشرية معلماً أمياً كسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، الذي جعل الله فيه فصاحة اللسان وعذوبة المنطق وجوامع الكلم، فكان معلما مربيا هادياً منيرا، ومع كل هذا كان أمياً لا يقرأ الكلام المكتوب ولا يكتب وهذا من عظيم معجزاته إذ إنه أميٌ وتدينُ له العلماء وتغترفُ من علومه جهابذةُ أهل العلم وفحولُ أهل اللغة على مر السنين في مشارقِ الأرض ومغاربها ومع أميته عليه الصلاة والسلام أدهشَ دُهاةَ العرب ومع كونه عُرفَ بأنه لم يقصد شاعراً ولا درسَ على معلم ولا قرأ َالكتب فقد جاء بكلامٍ أعجزَ الشعراء والكتاب والبلغاء فكانت معجزة من معجزاته أنه ُأميّ ملأ َالدنيا علماً وحضارةً وأحاديثه ُعمدةٌ يُحتجُ بها وكلامه قاعدة يُلجأ إليها في اللغة والمنطق والبيان والخطابة والكتابة، كيف لا وهو الذي قال الله تعالى فيه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)} سورة النجم/ وثبتت أميتهُ عليه الصلاة والسلام بنص الحديث عند أول نزول الوحي لما قال له جبريل: أقرأ فقال ما أنا بقارىء.
والأمية في حقه عليه السلام مدحٌ والمدح فيها أنه أميٌ معلم وأميٌّ أعجزُ كبار العرب وتحداهم بلغتهم فيعجزون عن التحدي ويلجأون إلى الإفتراء والحرب والمكيدة مع علمهم أنه لايقرأ المكتوب ولا يكتب، ولو استطاعوا أن يتحدوه بمثل ما جاء به لما كلفوا أنفسهم الحرب، والأميّ ُفي لغة العرب هو الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب وسميَ أمياً أي على خلقة أمه لم يتعلم الكتابة فهو على جِبلَتهِ كما في قوله تعالى {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 78 سورة البقرة/ وقال ابن منظور في كتاب لسان العرب [وقيل لسيدنا محمد الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب وبعثه الله رسولا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وكانت هذه الخلة إحدى ءاياته المعجزة لأنه تلا عليهم كتاب الله منظما ً تارة بعد أخرى بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره و لم يبدل الفاظه. وكان الخطيب من العرب إذا ارتجلَ خطبة ثم أعادها زادَ ونقص فحفظه الله عز وجل من ذالك، وأبانه من سائر من بعثه إليهم بهذه الآية التى باين بينهم بها ففي ذلك أنزل الله تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 48 سورة العنكبوت/] انتهى من كتاب لسان العرب.
وقد وصف الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالأمي بقوله تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 157 سورة الأعراف/ وفي الحديث عنه صلوات الله وسلامه عليه قال [إنا أمة أمية ٌ لا نكتبُ ولا نحسبُ] فليس المراد منه مدحُ الأمية بعدم القراءة والكتابة وإنما مُراده حسابَ النجوم لمعرفة أوائل الشهور وغيرها على عادة العرب في الجاهلية، ومما يدلُ على أن نبينا كانَ أمياَ معلما ما رواه البخاري في الصحيح من قصة الحديبية فإن فيه أنه لما أمر علياً أن يكتبَ كتاب الصلح بينه وبين قريش كتب فيه [هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قالوا: لانقر بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك من شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله ، فقال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعليّ رضيّ الله عنه: أمحُ رسول الله (أي الكلمة ) فقالَ عليّ: لا والله لا أمحوكَ أبداً، فأخذ رسول الله الكتاب وليس يُحسن يكتب فمحى كلمة َرسول الله].
وأما الشعرُ فإنه عليه السلام كان َ لاينظمُه وفي ذلك قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} سورة يس69/ فقد أخبر الله تعالى عن نبيه أنه لم يؤتيه معرفة الشعر وأنه لا ينبغي له أي لا يصلحُ له، وفيه ردٌ على قول الكافرين أنه شاعرٌ، وأما ذكره عليه الصلاة والسلام في عدة مواضع فهو من نوع الرجز أو يكون حكاية عن غيره كقوله يوم استغاث الناس به للقحط فدعا الله فهطلَ المطر فقال [للهِ دَرُ أبي طالب لو كانَ حياً قَرتْ عينَاهُ]، من يُنشِدُ قوله، فقامَ عليٌّ فذكرَ قولَ ابي طالب: وأبيضُ يُستَسقىَ الغَمَامُ بوجهِه .... ثِمالُ اليتامىَ عِصمَة ٌ للأرَامِل ِ
وفي الحديث أيضا أنه خرج في غداةٍ باردة ٍ يومَ الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرونَ الخندق في البرد فقال [اللهمَ إنَّ العيشَ عَيشُ الآخرة فاغفر للأنصارِ والمهاجرة] فأجابوه: نحنُ الذينَ بايعوا محمداَ على الجهادِ ما بَقينا أبداَ. ذكرَ ذلك البخاري في صحيحة، ومع أميته عليه الصلاة والسلام فهو يُعطي الأمم دروساً في التعليم والأدب وفنون وأساليب التعليم، والناظرُ في سيرتهِ يَعلمُ كيف أنّه كانَ يُعامل الناس بالشفقة والأسلوب النافع والحكمة البليغة. ومن أمثلة أساليبه في تعليم الجاهل ما ذكره أحدُ الصحابة واسمه معاوية بن الحكم حين كان يصلي وعطس رجل بالمجلس فقال معاويةُ وهو يصلي يرحمُك الله ولم يكن يعرف حكم الكلام في الصلاة. قال معاوية [فصارَ الناسُ ينظرونَ إليَّ فلما صلى عليه الصلاة والسلام دعاني فبأبي وهو وأمي ما رأيتُ معلماً قبله ولا بعده أحسنَ منه فوالله ما كهرني (نهرني) ولا ضربني ولا شتمني وقال: إن هذه الصلاة لايصلح فيها شىء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القراءن] رواه مسلم.
والرسول عليه الصلاة والسلام المعلم الأمي الذي حض حضاً بليغاً على نشر العلم وتعليمه للناس، وقد تخرج على يديه عدد غفير من الناس في فترة وجيزة من الزمن: فقد دفع أصحابه إلى محو الأمية بين الناس دفعاً بليغاً وحرضهم على ذلك وندبهم إليه، فقد جاء في الحديث الشريف أنه خطبَ الناس ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين وأثنى عليهم خيراً ثم قال [ما بالُ أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم] رواه الطبراني.
ولقد كان لرسول الله من الرأفة والرحمة والرفق بالمتعلم والحرص عليه وبذل العلم والخير له في كل وقت ومناسبة، قال الله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 128سورة التوبة/ وروى البخاري ومسلم عن مالك بن الحويرث قال أتينا رسول الله ونحن شبيبة متقاربون فأقمنا عشرين ليلة وكان رسول الله رحمياً رفيقاً فلما ظنَّ أنا اشتقنا أهلنا سألنَا عمن تركنَا بعدنَا فأخبرناه قال [ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي] فهل رأت الدنيا معلماً أشفقَ وأرحم من رسول الله وهل هناكَ معلم عنده من أساليب التعليم مع الفصاحة والبلاغة أعظم من رسول الله الأمي، وهل هناكَ معلم في الدنيا انتفعَ الناس بعلمه على مر السنين والقرون كسيدنا محمد معلم الناس الخير وهل هناك أميٌ وضع أهل اللغة والعلم المؤلفات الكثيرة لشرح مفردات كلماته ولبيان معاني كلماته، وهل هناك أميٌ ملأ الدنيا عِلماً وحكمةً وبياناً كهذا النبي العظيم الذي فاقَ الأولين والآخرين فجزاهُ الله عنا خيراً ووفقنا للسير على تعاليمه النيرة ونهجهِ القويم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي الذي ملأ الدنيا علماً ومعرفة ونفعاً وحكمة.